آلية (16) : الإسقاط

آلية الإسقاط: حين نرى ذواتنا في الآخرين

الإسقاط واحدة من أكثر الآليات النفسية انتشارًا في حياتنا اليومية، حتى وإن لم ننتبه إليها.

هي الآلية التي تجعل الإنسان ينسب مشاعره، رغباته، أو مخاوفه التي لا يستطيع الاعتراف بها لنفسه… إلى الآخرين.

بهذا يصبح الخارج مرآةً تعكس الداخل الذي لا نجرؤ على النظر إليه.

كيف يعمل الإسقاط؟

حين يواجه العقل جانبًا داخليًا يصعب احتماله – كالغضب، الغيرة، الطمع، أو الرغبات التي لا يقرّ بها – يلجأ إلى حيلة دفاعية:

“لست أنا هكذا… بل هو/هي هكذا.”

فتتحول المشاعر المكبوتة إلى اتهامات للآخرين، وكأننا نزيح الحمل عن أكتافنا لنضعه فوق ظهورهم.

أمثلة حية

  • الغيرة: شخص يضطرب داخله من مشاعر الغيرة، فيبدأ باتهام شريكه بالخيانة. الحقيقة أنه هو الغيور، وربما هو الذي يحمل رغبة غير مُعترف بها بالخيانة.

  • الكِبر: إنسان بداخله شعور بالتفوق لكنه يخجل من إظهاره، فيُسقطه على الآخرين: “شايفين حالهم”، “فاكر نفسه مين”.

  • الطمع: شخص يُقدّر المال بشدة لكنه يفتقده، فيتهم الآخرين بالطمع، وكأن جوعه الداخلي يُعرض على شاشة وجوههم.

بهذه الطريقة، يبدو الوعي الداخلي “نظيفًا”، لكن الواقع أن الظلّ لم يختفِ… بل تبدّل مكانه.

الإسقاط في العلاقات

العلاقات القريبة – كالعلاقات الزوجية أو الصداقات – هي أكثر الساحات خصوبة للإسقاط.

فكلما اقتربنا من شخص، صار مرآة أوضح لأعماقنا. لذلك قد نرى أحيانًا إصرارًا غريبًا على اتهامات أو شكوك لا تستند إلى دليل… لكنها في الحقيقة صدى لمعارك داخلية لم تُحسم بعد.

علاقة الإسقاط بالظل

كارل يونغ وصف “الظل” بأنه الجانب المظلم من شخصياتنا، ذلك الذي لا نحب أن نراه في أنفسنا.

الإسقاط هو باب من الابواب التي يخرج منه هذا الظل، ليتجلى أمامنا في صورة الآخرين.

لكن هنا تكمن المفارقة: لحظة الإسقاط يمكن أن تكون فرصة ذهبية للوعي، لأن ما يُسقطه الآخر علينا قد يكون مرآة لجرحه، أو لجرحنا نحن.

كيف نكتشف الإسقاط؟

  • عندما يقول لك أحدهم: “أنت أناني” أو “أنت قاسٍ”، لا تتسرع بالتصديق أو الدفاع.

  • خذ نفسًا عميقًا واسأل نفسك:

    • هل هذا يعكس شيئًا في داخلي لم أواجهه؟

    • أم أنه ظلّ الآخر الذي يتحدث من خلاله؟

    • أم كلاهما؟

  • انظر بهدوء إلى نبرته، ملامحه، خوفه. غالبًا سترى أن ما يقوله عنك… هو ما يحاول إخفاءه عن نفسه.

كيف نتعامل مع الإسقاط؟

  1. توقف عن رد الفعل الفوري. الصمت الواعي يكشف الكثير.

  2. حوّل الاتهام إلى سؤال. بدل “أنا لست كذلك”، جرب أن تقول لنفسك: “ماذا لو كان هناك جزء مني يشبه ذلك؟”

  3. انظر للإسقاط كهديّة. كل اتهام هو احتمال لاكتشاف زاوية مخفية داخلك أو عند الآخر.


تمارين وعي

1. مرآة الكلمات

في المرات القادمة، عندما يوجَّه لك اتهام أو نقد، لا تدافع مباشرة.

اكتب الجملة كما هي، ثم اسأل نفسك:

  • هل هذا يعكس حقيقة فيّ؟

  • إن لم يكن كذلك، فما الذي يكشفه عن الطرف الآخر؟

2. دفتر الإسقاطات

اختر يومًا واحدًا فقط، ودون فيه كل العبارات التي قلتها عن الآخرين:

  • “هو بخيل”، “هي مغرورة”، “فلان أناني”.

    في نهاية اليوم، اقرأ ما كتبت واسأل نفسك:

  • أي من هذه الصفات يمكن أن تكون في داخلي ولو بدرجة صغيرة؟

3. تأمل الصدى

اغمض عينيك، وتذكر آخر مرة شعرت فيها بالانزعاج من شخص ما.

بدل أن تفكر فيه، التفت إلى داخلك واسأل: “أي جزء مني يرفض أن يُرى الآن؟”


خلاصة

الإسقاط ليس خطيئة، بل رسالة.

كلما وعيته، تحول من سلاح يجرح الآخرين إلى بوصلة تكشف لك الطريق نحو ذاتك.

وكلما رأيت ظلك في الآخر، تذكّر أن الحياة تعطيك مرآة لا لتدينك، بل لتوقظك.

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *